القلب الكبير " قصه
قصيره " و
شيخ البلد " قصه قصيره " و طالع الشجرة "
قصة للاطفال " - عبدالله عيشان
القلب الكبير
" قصه قصيره "
جلس في احدى زوايا "
الديوان " مفكرا مهموما بعد نهار حافل بالاحداث وكان يجلس حوله
رجال حمولته
من شيوخ وشبان ، والصمت يخيم عليهم جميعا . كانوا ينتظرون منه حديثا وكلاما
،
فهو كبيرهم
يريدونه ان يتحدث ، وبما ان منظره يدل على بالغ المه ، فلا بد من احترام
هذا الامر في
هذه اللحظة
العصيبه ، ومن الخطا ان يحدثوه او يبادروه بكلمة قد تثير المه وتهز كيانه
....
واخيرا نهض الشيخ من
مجلسه ، واختلى ببعض الرجال في الغرفة المجاوره ولم تمض دقائق معدوده
حتى عاد الى
مكانه . عاد صامتا ايضا ، فلم ينبس ببنت شفة ولم يساله احد مع ان الاعناق
تطاولت
عندما خرج
ووقت رجوعه ، وتبادل اهل المجلس النظرات متسائلين عما يجري ، والاف الاسئلة
تدور
في راس كل
فرد وفرد ، ودلائل الحيره باديه على الوجوه العابسه والقلق يكاد يزهق
الارواح ....
وزاد الجمع حيرة خروج تعض
الرجال الذين سارهم الشيخ وحملوا سلاحهم فكانهم يبيتون امرا،
لا شك ان
الشيخ اراد ان يكيل الصاع صاعين والشر بالشر يدفع ، هذه حكمة الزمان وهذا
منطقه
الاول
والاخير . كان الشيخ حمدان يعيش في نفسه مفكرا ، وبتصرف لوحده - بعد ان
يشاور المسنين
من الحموله -
فكان الموجه والقائد فقد علمته التجارب ان يتصرف بحكمه وصمت .
لقد جلس هادئا منبسط
الاسارير ، ولم تعد العتمه تكدر ملامح وجهه ، وظن اهل المجلس ان
انبساطها
لانه يشعر بالارتياح بعد ان كلف رجاله برد الفعل والثار ، لقد ازاح عن صدره
عبئا ثقيلا
تنوء به
الجبال .
كان يجلس ويعرف ما يفكرون
به، فهو ادرى الناس بهم ، فالتجارب والاحداث الماضيه علمته ما
فيه
الكفايه..يعرف انهم يريدون الانتقام ، ورد الفعل ، والاعتداء على ابناء
الحموله الثانيه. يعرف انهم
يتهمونه
باللين والمصانعه والمداراه، وانه سبب كل بلوائهم ومصائبهم فيا لهم من جهله
لا يعلمون!! .
انه يرى الامر ليس كما
يرونه ، فلقد نالوا قسطا اكبر من الامان في الايام الاخيره ، نالوا قسطا من
الراحه
والرخاء بعد ان عانوا الامرين زمن والده الشيخ الذي كان يقودهم بنفسه الى
المهالك ، لاتفه
الاسباب -
رحمه الله - وان لم يكن ليضع اللوم عليه ، اذ شتّان ما بين اليوم والامس .
والده كان
يكيل للمعتدي
.. الكيل " غراره " ولكنه لا يسلم من الاذى والاضرار . ناهيك عن ارث لا
يحسدهم
عليه الا
الجاهل .
فهذه الحوادث بالامس ، ان
هي الا نتاح ، المشاكل قديمه العهد ، وهذا الارث الذي يمقته ويبغضه
ويعمل على
البراءه منه . فابنه احمد طريح المستشفى مع عشرات الجرحى من الرجال والنساء
من كلا
الحمولتين
وعشرات من الشبان في السجن من الطرفين المتنازعين - والقريه قلقه مضطربه
حزينه كئيته
فاذا مررت
بطرقاتها وازقتها لاحظت وجوه اهلها .
لقد عشش الحقد في الصدور
منذ القدم ، ورثه الاباء للابناء ، لقد عاش مدفونا كالنار تحت طبقه
رقيقه من
الرماد فما ان تهب نسمه هواء حتى تبعث النار ويتطاير منها الشرر ويحرق كل
ما يصيب ،
وجاء الوقت
الذي انطلق فيه الحقد من قيده ، وولد شرا ، وتفجرت دماء ، وتكسرت عظام ،
وتالمت
جنوب وبكت
امهات ومن يدري ، لعل ارواحا تزهق ، فاحمد لا يزال تحت رحمة ربه ، فاقد
الوعي
وجراحه بليغه
في راسه ، وكذلك جراح الاخرين . لم يكن من رايه يوما ان يسيء التصرف ،
ويقابل
الاساءة
باختها ولا يرد للمسيء لانه اقوى منه ، ومع انه قادر وقوي الا انه كان
دائما يحذر من عداوة
الضعيف
والجاهل .. كان يحذرهم كثيرا ، فيوم المظلوم على الظالم اشد من يوم الظالم
على المظلوم ،
ولا يؤمن
جاهل وبيده السيف ، ولكن اين هم من ادراك ما يقول ، فالموعظه اذا دخلت اذن
الجاهل
خرجت من
الثانيه ..
ان الامور تسير على غير
طبيعتها ، ان الحقد يزداد وينمو ويكبر ويتجسم ومن يدري ما يخبىء لهم
الغد ؟! ما
حدث بالامس قد اصبح واضحا جليا ، ولكن الغد مجهول .الرجال في المستشفى تحت
وطأة
الالم ، ابنه
فاقد الوعي وقد لا يعيش ، وبعض الرجال على سطوح المنازل مدججين بالسلاح
حرصا
ويقظة من يد
العابثين ، والاشاعات تنتشر بين ساعه واخرى تتحدث عن موت احمد وموت عنتره
من
ابناء
الحموله الثانيه يروج لها المارقون الحاقدون .. فما قرعت عصا على عصا الا
سر لها قوم وحزن
اخرون !!
وشط به الفكر بعيدا ،
وقال في نفسه : يا له من مجتمع عفن يعيش على الام الناس ويرتفع احدهم
على رقاب
الاخرين ، وسالت دمعة من عينه انحدرت على وجنته ، فاسرع واخفاها وهو الذي
لم
تدمع له عين
من قبل ، ولم تكن نفسه تدري هل نزلت الدمعة حزنا على ولده الطريح في
المستشفى ،
ام هاله
الموقف المحزن المخيف الذي يمكن ان ينفجر بين لحظه واخرى !! وتذكر الماضي
البغيض بحوادثه
والامه ،
ايام طفولته وشبابه . فلم يكن يمر يوم بدون هموم واحزان ، فالمزروعات تقلع
، والحصائد
تحرق في
الحقول وعلى البيادر ، والاشجار تقطع ، والدماء تسيل والارواح تزهق ... هذه
هي حالة
المجتمع
انذاك .. والفلاح ينام في كرمه قلقا خائفا من يد الغدر ان تمتد اليه ،
والراعي يخرج الى المرعى
مع قطيعه
والسكين في جيبه والعصا في يده ، استعدادا للطوارىء ورد العدوان .
والمزارعون يخرجون
بثيرانهم الى
الحقل جماعات جماعات ، ويتناوبون السهر والحراسه . الى متى يبقى هذا
المجتمع مريضا
جاهلا !
مندفعا وراء هفوات بسيطه واخطاء طفيفه يمكن التغاضي عنها بالتفاهم والصفح
!! انه يعرف
موقعه منهم ،
انه ربان السفينه في هذا البحر المتلاطم الامواج والقلب الكبير بين تلك
القلوب المتباينة
العواطف
ومتقاطعة الاهواء فلا بد من اتخاذ عمل سريع وحاسم ، لا بد من التحرك ، اما
بالقاء البنزين
على النار
لتزيدها التهابا واشتعالا ولن تسلم منها نفسه ، واما بالقاء الماء عليها
لتخفف من حدتها
وشرها او
اطفائها ! فلا بد من واحد من اثنين !!
لكل هذا ، فقد انتحى بنفر
من رجاله وكلفهم بمهام معينه ... ولقد عاد الى مكانه في المجلس ولم
تهدأ نفسه
وتطمئن للغيب ، وما سيحمله لهم القدر ، وتقدم الليل وانفض من حوله اهل
المجلس ما عدا
عمه المسن ،
اما هو فلم ينم ، ولا تزال نفسه تئن تحت وطأة الهم الجديد !!
وتقدم الليل والساعه
الواحده بعد المنتصف ، ولم يبقى في " الديوان " غير اثنين "هو وعمه الشيخ"،
واذ بضجه
وجلبة في الخارج ، وخشي ان يكون ذلك انذار لمفارقة ابنه احمد الحياه ، ومرت
الصور
السوداء
كثيرة في راسه ، فنهض مسرعا ليزيح عن صدره عبئا كاد يقتله ، واذ بثلاثه
رجال مكتفين
ومعهم بعض
رجاله ...كانوا يحملون ادواتهم في ايديهم .. وتفرس في وجوههم فعرفهم واحدا
واحدا،
وهز راسه
كثيرا ، ثم انتهر رجاله بان يكفوا عن اذاهم ، وقال لنفسه : هذا ما كنت
اخشاه !!
واطرق مفكرا ، ثم دخل
الديوان وتهامس مع الشيخ المسن ، وخرجا معا ، وساق هؤلاء المكتفين
امامه من
زقاق الى زقاق حتى انتهى الى دار الشيخ عدنان ... وعمه الشيخ يتعثر الخطى
وراءه ! وقبل
ان يصل الدار
بقليل نادى باعلى صوته على اصحابها ، واذ برجل من اعلى السطح قد سمع النداء
وعرف صوته ،
كان بين صاح ونائم ، انه صوت الشيخ حمدان . وتبادر لذهنه ان ولده احمد قد
مات
كما اشيع عنه
مساء ، وان الرجل جاء ليثأر لابنه منهم ... من ابن الشيخ عدنان عدوهم !..
ولم
يستطع ان
ينهض لقد احس ان ظهره قد انقسم نصفين ، ولم يقو على الحركه وقال لنفسه :
لقد مات
احمد وبدأت
المصاعب بوجهها البغيض الكالح ... وفرك عينيه ليزيل النعاس وسمع النداء
ثانية ... لقد
تاكد الان من
صحة ما سمع ، انه الشيخ حمدان بنفسه ومعه رجاله ، جاؤوا للانتقام ! وكانت
الدار
محكمة
الاقفال ، واهلها بين صحو ونوم ، وكان هذا الشاب الابن يحرس دارهم خوفا
وحرصا ،
وبندقيته
بيده ، وتحرك اخيرا ، وحرك يده ، وراح يتحسس مكان الزناد وقال لنفسه : لا
بد من الحذر
والحيطه
ولسوف اقتله قبل ان يقتلني ، ولقد يغدو الانسان قاتلا رغم انفه ... وافزعه
هذا التفكير
وضاع بين
احساساته المتناقضة بموت احمد وبارتكابه القتل !! ودون وعي منه مد فوهة
البندقية نحو
الصوت لكي
يصيب هدفه بطلقة واحده ، لكنه سمع كلاما اذهله وحيره ، فجمدت يده على
الزناد ...
لقد سمع صوتا
يقول :
-يا
شيخ عدنان انا حمدان جئت اسلمك هؤلاء الرجال ... وذهل الابن المتربص ، ولكن
نفسه
ارتاحت وهدأت
اعصابه وتبددت مخاوفه بعد ما سمع ....
ونزل عن
السطح من الجهة الخلفية ، ووجد والده قد استيقظ وفتح الباب ، ودخل الشيخ
حمدان وعمه
ودخل معهما
الرجال .... وابتدرهما بقوله :
-يا
شيخ عدنان ، اتعرف هؤلاء الرجال ؟ واشار الى الثلاثة المكتفين .... وبعد ان
تفرس بهم
الرجل قال :
نعم اعرفهم !
قال : هل هم
من حمولتي او اصحابي او انسبائي ؟
فاجاب الشيخ
عدنان لا !!
فقال الشيخ
حمدان : بينما كان رجالنا يقومون بحراسة كروم زيتونكم خوفا من العبث بعواطف
الجهلة ، في
هذا الظرف العصيب ، واذ بهؤلاء الرجال يعملون ادواتهم في تقطيع ونشر
الاشجار فالقى
رجالنا القبض
عليهم ، وها هم بين يديكم : فهؤلاء هم اعدائي واعداؤك يا رجل !!
وما انهى كلامه حتى خرج
معه عمه تاركا الشيخ عدنان حائرا في امره ، ولكنه تذكر ان الشيخ
حمدان فعل
اختها قبل اليوم ، منذ سنوات ، فقد كان رجاله يتناوبون حراسة بيت اخيه
المجاور
لبيوتهم ،
ليسد الطريق على المصطادين في الماء العكر ، والعابثين في النار ....
واحس الرجل بارتياح كبير
وكأن الجبال التي ترقد على صدره منذ يومين قد ازيحت بقدرة قادر
وبطرفة عين ،
وراح يغبط هذا الرجل على قلبه الكبير الذي يتسع لنزوات الاخرين ، وعينه
الساهره ،
ويده المضمده
آسية الجراح ....
وفي الصباح ، كان الشيخ
عدنان بين حشد كبير من شيوخ حمولته وشبانها وعلامات الفزع على
وجوههم ،
وبعد ان التأم الجمع ، اندفع يتقدمهم بخطى ثابتة ويضرب الارض بعكازه ، في
طريقهم الى
بيت الشيخ
حمدان .
شيخ البلد " قصه قصيره "
كان يقف في باب " المنزول
" وهو في حالة غضب شديد ، وقد خلع عمامته وبشته ، وامسك
بالسوطيهزه
بعنف . وكان الرجل صاحب راس كبير ، وله عينان واسعتان مستديرتان كعيني ام
قويق .
ولحيته تتدلى
على صدره وفكه الاسفل يرتعش ، وجسمه الضخم يرتجف ،وراح يسب ويلعن ويقول:
-
كيف يجرؤ هذا الجرو الصغير على
شتم حفيدي ! انها الطامه الكبرى ! لعن الله امه الخائته واباه
المفصوع !!
وأرسل
الناطور لاستدعاء والده ، انه لم يأت بعد ، ومتى حضر الشيخ العجوز سوف يلقى
جزاءه على
سوء تربية
جرائه ، عليه ان يعلمهم ان العين التي تنظر الينا شزرا سملناها ، واللسان
الذي يجروء على
شتمنا قطعناه
! واليد التى تمتد الينا غدرا بترناها !!!
والمنزول في البلد كان
اشبه بقبو واسع كبير ، يقسم الى قسمين : فالاول - ديوان ضيوف القرية
والغرباء .
والثاني - اسطبل للخيل والبهائم . فلقد كان في كل قرية منزول ايام الحكم
العثماني ، هو
مأوى الغرباء
والضيوف الذين يفدون اليها في عمل او شغل او مهمه !!
والجنادرة يبيتون فيه ،
والمبيضون يتخذونه منزلا ، والبرامكه والنور يقصدونه . وفيه يصيبون
طعامهم
وشرابهم . وتنعم البهائم بالشعير والتبن ، يقدمه اهل القريه بالتناوب .
وامام المنزول دكة
امامها ساحة
كبيرة هي ساحة البلد ، ومنتدى الرجال . يجلسون على الدكة في اوقات فراغهم .
في
الصباح وعند
المساء ، مع شيخ البلد والناطور ورجال الشيخ الذين يعتمد عليهم عند المهام
والامور
الصعبة .
يقومون في حراسة الدار وتنفيذ اوامره ، وانزال العقوبات التي يراها مناسبة
، فكان بيته سجن
القريه .
وفي كل بلد شيخ ، هو ظل
الوالي وشبح السلطان ، يسوس الناس ، ويقضي بينهم بالقوة ، ويطيل
النشوة ،
ويقبل الرشوة . فلا مظالم ترفع ، ولا شكاوي تقدم الا بامر من الحاكم المطلق
في القرية ، من
شيخها . ولم
تكن الحكومة تنظر في الدعاوي والمظالم انذاك الا اذا قدمها شيخ البلد ،
ورفعها بنفسه ،
وطالب بانزال
العقوبة ونوعها . هذا اذا استعصى عليه الامر !! وكان يقدمها ضد من يتمرد
ويفر من
قضائه . وكان
السجن في عكا ، واللومان مأوى لهؤلاء المتمردين والعصاة . يسامون فيه سوء
العذاب .
ويقضون زهرة
ايامهم . يتخرجون منه اكثر وحشية واشد نقمة وعنادا من قبل ما دخلوه !!
وكان البعض منهم يفر
ويترك زوجته واولاده الصغار تحت رحمة الحاكم المطلق ، وتحت قسوة
الجوع والالم
ووطأة البرد والحر . وتجد السلطه في طلبه ، وبعد سنوات يرجع ويلاقي امامه
بدل الجزاء
الواحد
جزاءين . وكان البعض الاخر يفر ليلا مع اسرته ولسان حاله يقول : بلاد الله
واسعة ! ويترك
وراءه كل ما
يملك من حطام الدنيا ، وكوخا تسرح فيه الفئران ، وتتجول فيه الصراصير
والدوبيات ..
وظهر اخيرا في الطرف
المقابل للساحة كهل كعود الحطب ، محدودب الظهر ، منحني الراس ،
بطيء الخطى
كسائر في جنازة ، وعلى وجهه النحيف غضون سمراء تدل على السآمه والعياء
الشديد ،
يجر رجليه
بتثاقل ..... وعندما استدعاه الناطور ، حسب لذلك الف حساب ! فالشيخ والقسوه
والظلم
والاهانه والفلقه كلمات مترادفه ولكن ما العمل !! وهو رب البلد وحاكمها
القوي الجبار
الذي لا يرد
له حكم ، واهب الحياة والرزق لمن يشاء من ابنائها !!
لم يعرف فرهود السبب لهذه
الدعوة ، مع ذلك فقد احس بالرجفة تسري في بدنه . ولما وصل امام
شيخ البلد
تقدم منه ذليلا ،كسير الفؤاد . لكن الشيخ بصق في وجهه كلما قد تحلب في ريقه
في دقائق.
وضربه بالسوط
وشتمه ، وصاح به مستغربا دهشا : كيف يجرؤ جروك الصغير على شتم حفيدي
الطاهر
الشريف يا بهيم !!! وغمز رجاله فتقدم اليه بعض رجاله الذين انتقاهم من
الشبان ، غلاظ
القلوب لا
يعرفون الرحمة . زبانية الشيخ وانهالوا على المسكين لطما وصفعا حتى سقط
وتكور جسده
على الارض ،
يتلقى الضربات . ولم يسمع منه غير همهمة وانين متواصل ! ثم صاح بهم الشيخ
اتركوه
وليرحل عن بلدنا الى جهنم !!!
قام المسكين بعد جهد كبير
متثاقلا ، وجمع بعضه على بعض ، ونكس راسه ، واستطاع ان يمسح
ما تبقى من
اثر البصاق في وجهه . ومشى الرجل الى بيته يجر ذيول الخزى والعار لكنه يحمل
في صدره
الالم والحزن
والقلق والثورة المكبوتة التي ما يفكر بها الا ويشعر انه عاجز . لقد قال
شيخ البلد كلمته ،
فليفتش له عن
بلد اخر . واين سيجد المأوى والمسكن ! اين يذهب ! واين يقيم ؟! لقد ضاقت
الدنيا
في وجهه مع
سعتها ! وبجهد استطاع ان يعي ان له في بلد بعيد بعض الاقارب وفكر بالنزوح
اليهم ...
وكان ابن العجوز فرهود
يلعب في الحارة ، مع بعض الصبية امام الاكواخ المتداعية على اصحابها.
ومر بهم حفيد
الشيخ ، شتمهم بدون مبرر ولا سبب ، واقترب من ابن فرهود اقرب صبي اليه ،
ودفعه
قائلا : انت
حمار !! واحس الصغير بالاهانة امام اترابه فما كان منه الا الجواب : انت
ستين حمار !!
وهم بضربه
الا انه لم يكن يدري من اين اتاه الضرب ، حتى ابناء الفلاحين والفقراء
صفعوه وقذفوه
بالحجارة مع
حفيد شيخ البلد ....
سمع الجبار القصة من
حفيده المدلل ، ونقلها له الرجال ، تشفيا من فرهود ، ذلك الرجل الذي
كان يدأب على
عمله في الصباح ، ويعود في المساء . انه حطاب يقطع الحطب من اشجار البلوط
والخروب
والعبهر ويحملها على حمار له اشهب ، ويبيعها في المدينة لاصحاب الافران ...
ويرجع منها
الى البيت ،
الى كوخه يحمل الخبز لاسرته ، والعلف لحماره ، الذي كان يقول عنه دائما :
انه يده
ورجله !!
ومع المساء ، مالت الشمس
للغروب ، كما اعتادت ان تميل وانحدرت بين غيمتين ، والفلاحون
عائدون من
حقولهم وغيطانهم ، يسحبون البهائم ، ويحملون عشاءها فوق الحمير والبغال .
وارتفعت
سحب الدخان
من اسطح البيوت ، بيوت الطين والاكواخ وسقوفها ، وهب النسيم مثقلا برائحة
الزيت والعيش
، وصعدت النساء فوق السطوح ، وجهزن الطعام بعد ما انتهين من علف الدجاج
والبهائم .
وجلست الاسر حول اطباق الطعام تلتهمه ، وفي تلك اللحظه سقطت الشمس وراء
البحر
بالقرب من
راس الناقوره ، كدمعة حمراء ، ملتهبة كالدموع المتساقطه على وجنات فرهود
واسرته ....
خيم الظلام على الارض
وفرش اجنحتة على الهضاب والآ كام والحقول والبيوت ، وتمدد الناس
في فراشهم
بعد تعب النهار الطوبل دون حراك . وفي الطريق الوعر كان فرهود يسير ويتعثر
وراءه ابنه
ومعه افراد
اسرته وحماره ، والدموع تنحدر من العيون حمراء ساخنة !!!
طالع الشجرة " قصة للاطفال "
كان نضال فتى وسيما ،عاش
طفولته مع اسرته في احدى قرى الجليل . وكان بكر هذه الاسره
القروية ....
واعتاد ان يذهب الى الكروم والحقول مع رفاقه ، والى الغابة القريبه فوق جبل
السنديان ،
حيث يتسلقون
الاشجار ويتأرجحون على اغصانها الغليظة ....
وكان نضال بينهم القائد
الصغير المبادر لكل عمل ولهو ، حتى نال حب واعجاب رفاقه ... لقد
كان يكثر
الخروج الى الطبيعة والتمتع بجمالها ويصعد على الاشجار حتى يصل الى القمة
....
وذات يوم ، انطلق مع
رفاقه الى احدى الغابات ، وكان في الغابة شجرة جميز عالية ومتفرعه ،
فعزم على
الوصول الى قمتها ، وقد حذره رفاقه من خطر السقوط ، الا انه لم يسمع
نصيحتهم ، ولم
يعبأ
بتحذيرهم ...
خلع نضال حذائه وثيابه
العلويه ، وتسلق على الجذع الضخم وبسرعة وصل مجمع الفروع
العديدة ،
ومن ثم صعد على الفرع في وسط الشجرة المرتفع الى اعلى بزاوية قائمة تقريبا
.... ارتفع
نضال وارتفع
، وكان الرفاق من تحته على الارض ما بين مشجع ومحذر ولم يدر كيف ان قدمه
انزلقت ، ولم
تساعده يده على الامساك باحد الفروع ، واختل توازنه ، وفجأة هوى الى الاسفل
،
مخترقا
الاغصان الطرية تارة ومصطدما بالقاسية الاخرى ... واخيرا سقط على الارض ،
فدقت ساقه
اليمنى .....
قضى نضال طيلة شهرين في
الفراش ، والجبص يلف الساق كلها وجبر الكسر وعاد الى الحياة ،
يلهو ويلعب
ويخرج الى الغابة ويصعد على الاشجار ....
لم تكن حادثة كسر ساقه قد
ردعته عن شيء ، فعزم ان يصعد على الجميزة ويصل الى قمتها .
لقد كان
يراوده ذلك الامر وهو لا يزال نائما في السرير ، يقينا منه ان لا شيء
مستحيل ....
ذهب نضال كعادته مع بعض
رفاقه الى نفس الغابة والى شجرة الجميز حيث دقت ساقه ، وما
ان وصل حتى
اسرع بخلع حذائه وثوبه ، وبالتسلق على الشجرة ، وتناسى ان رجله قد دقت في
هذا
المكان ،
وانه سوف يعرض ساقه لنفس المصير الاول ، او ساقيه معا .... الا انه كان قد
عرف مواطن
الخطر ايضا ،
وعرف الخطا الذي ارتكبه عندما سقط انذاك ....
صعد نضال الى اعلى ، ولم
يصل اكثر مما وصله في المرة الاولى ، وسقط على الارض هذه المرة
ايضا ، كادت
ساقه اليسرى ان تدق ، نهض متألما يتحسس رجله واعاد الكرة ثانية وثالثة
ورابعة ...
وكان في كل
مرة يسقط الى الارض ! كان الرفاق يحاولون منعه قائلين له : كفى ! الا تخاف
ان
تكسر رجلك
مرة اخرى ! وتنام في السرير شهرين كاملين ! لكن ذلك لم يثنه عن عزمه , بل
استمر
وتمكّن ان
يتجنب كل مرّة الاخطاء التي تسببت في سقوطه ...
وكان في كل
مرة يحاول بها يرتفع قليلا حتى انه وصل اخيرا الى قمة الشجرة . واعاد
الكرّة الى القمة
ثانية وثالثة
ورابعه...
وارتفع صوت رفاقة بالغناء في كل
مرة يصل فيها الى القمة قائلين :
" يا طالع
الشجرة
هات لي معك بقرة
تحلب لي
وتسقيني بالملعقة الصيني .."
وهكذا كان نضال لا ينثني
عزمه عن انجاز عمل حتى يحقق ما يراه ممكنا !
مرت الايام وكبر نضال
واحب ركوب الخيل وتمرن على ذلك في حقول القرية الواسعه ,
وصارت هوايته
المحببه الوحيدة التي يمارسها يوميا على حصانه الابيض ..
وركب الحصان ذات يوم, كي
يعبر به فوق الحواجز لاول مرة فما ان قفز الحصان الا ونضال
يهوي الى
الارض. وفي الكرة الثانيه هوى عن حصانه الابيض وهو يجتاز الحاجز , لكنه
استطاع ان
يقف على
رجليه بسرعة ويعود الى صهوة الجواد . وفي الثالثة والرابعة استطاع ان يسقط
واقفا...
وواظب على
التمرين والمحاولة ولم يسقط, واستطاع ان يثبت فوق الجواد الابيض ...
وذات يوم صار نضال يشارك
في سباق الخيول , في تخطي الحواجز على اختلاف ارتفاعاتها..
واستطاع ان
يفوز اكثر من مرة بالمرتبة الثالثة فثم الثانية , حتى انه فاز اخيرا
بالمرتبة الاولى !! وكان
دائما يقول :
"بالعزيمة والصبر والمثابره يتحقق كل شيء..."
|